نعيش أيامنا وكأنها لا تنتهي، وكأن الفقد لا يعرف إلينا سبيلًا، لكن لحظة واحدة قد تغيّر كل شيء.
هكذا هو الزمن… يسير معنا بهدوء، ثم يفاجئنا بما لا يُحتمل.
“آسيا“، امرأة متزوجة من السودان في الخامسة والأربعين من عمرها، كانت تعود يومًا مع والدها ووالدتها وعائلتها في سيارة العائلة. كان الطريق هادئًا، والسماء صافية، والمنظر خارج النافذة يبعث الطمأنينة. داخل السيارة، كان الضحك يملأ الأجواء، والحديث لا ينقطع… لحظات دافئة لو أنها دامت.
لكن فجأة… اصطدمت السيارة، وانقلب كل شيء.
في لحظة واحدة، تحوّلت تلك السيارة المليئة بالحب إلى حطام، والركّاب الذين كانوا يتبادلون الحديث، أصبحوا صامتين، تغمرهم الدماء والجروح.
قُذفت آسيا من السيارة بقوة، وتدحرج جسدها حتى استقر تحت شاحنة متوقفة. لم تكن تصدر منها سوى أنفاس متقطعة، وجسدها المكسور بلا حراك.
وصلت فرق الإسعاف سريعًا، وجمعت المصابين. وقبل أن تتحرك إحدى العربات، لمح أحدهم ظلًا تحت الشاحنة… امرأة مصابة من الجروح فاقدة الوعي وهي كانت آسيا.
نُقلت إلى المستشفى في اسرع وقت ممكن، وهناك وقف زوجها وأبناؤها قرب غرفة العمليات، بين دموع ودعاء. وبعد ساعات، خرج الطبيب بخبر كالصاعقة:
“أم آسيا وأبوها فارقا الحياة… أما هي، فقد نجونا بها، ولكن…”
كانت الإصابات مروعة: تمزق في الكتفين، تهشّم في الأصابع، وتفتت كامل في مفصل الكوع الأيمن، بالإضافة إلى كسر شديد في الورك الأيمن. لم يكن بالإمكان آنذاك إجراء عمليات استبدال المفاصل، فتم تثبيت العظام باستخدام بلاتين وبراغٍ معدنية، لكنّ الأطباء أكدوا أن آسيا لن تتمكن من المشي مجددًا، ولا من استخدام يدها اليمنى.
في السودان، أخبر الأطباء زوجها أن استبدال مفصل الورك والكوع عملية شبه مستحيلة لديهم، وأن إمكانية نجاح العملية تكاد تكون معدومة.
تحوّلت آسيا من ركنٍ أساسي في بيتها، كانت تقوم بكل المهام، إلى جسد مُقعد. زوجها لم يحتمل رؤيتها بهذا الوضع. كان يقول:
“لن أتركها مكسورة… سأبذل كل ما بوسعي لتعود كما كانت.”
ورغم فقدها لأعزّ الناس، ورجلها ويدها، لم تفقد آسيا عزيمتها. كانت تردّد: “لن أنكسر، لن أنكسر.”
كان هناك أمل… صديق العائلة في الهند، “برهان أحمد”، يعمل مترجمًا ومنسقًا طبيًا في مستشفيات متقدمة. أرسلت العائلة له التقارير، فلم يتأخر، ورتّب سفرها إلى الهند.
وصلت آسيا إلى نيودلهي بصحبة زوجها، واستقبلهم برهان، ثم بدأوا رحلة العلاج. تم اختيار الدكتور وكاس غبتا لاستبدال مفصل الكوع، والدكتور رمنيك محاجان من قسم العظام لاستبدال مفصل الورك.
بعد فحوصات دقيقة، قرر الأطباء إجراء ثلاث عمليات كبرى في يوم واحد:
- ترميم الحوض المكسور
- استبدال مفصل الورك اليمين
- استبدال مفصل الكوع ليد اليمني
ورغم صعوبة هذا القرار، فإن الفريق الطبي قرّر تنفيذه لتقليل المخاطر وتسريع الشفاء، مستندين إلى خبرة عالية وثقة كبيرة.
دخلت آسيا غرفة العمليات صباحًا، واستمرت الجراحة لساعات طويلة. استغرقت العملية اليوم الكامل وعندما خرج الأطباء من غرفة حملوا معهم خبرًا طال انتظاره: العملية نجحت، وآسيا عبرت أخطر مراحل الألم.”
ومن هنا بدأت رحلة جديدة… رحلة التعافي.
بدأ فريق العلاج الطبيعي معها منذ اليوم التالي، بتمارين لتحفيز الحركة. وبعد أسبوعين، بدأت يدها اليمنى تتحرك، وقدماها تستجيب للعلاج. تقول آسيا:
*”عدت أتناول الطعام بيدي، وأمشي بثقة… وكأن الحياة عادت تتنفس داخلي من جديد.”*
لم يكن النجاح في الجراحة فحسب، بل في التكامل بين التشخيص والجراحة والتأهيل، وفي الدعم الإنساني الذي قدمه برهان، فكان لها صديقًا ومترجمًا وداعمًا نفسيًا في كل خطوة.
قصة آسيا لم تكن علاجًا فقط، بل قصة أمل، تُثبت أن في الهند لا يُنظر للمريض كرقم، بل كإنسان يستحق الحياة. مزيج من المهارة الطبية والرحمة جعل من تجربتها رحلة استثنائية.
اليوم، عادت آسيا إلى السودان تمشي على قدميها، وتحمل في ذاكرتها قصة لن تُنسى… قصة كتبت فيها الهند فصلًا جديدًا في حياتها.
وعندما عادت آسيا إلى بيتها في السودان، لم تكن وحدها من عاد…
بل عادت الحياة معها.
دخلت في منزلها تمشي على قدميها، فاستقبلتها العائلة بدموع الفرح.
عادت الابتسامة إلى الوجوه التي أنهكها الحزن، وارتفعت في البيت أنفاس جديدة، دافئة، تروي أن الشفاء ممكن، وأن خلف كل ألم أمل،
وأن الحب والعزم والطب… يصنعون المعجزات